مرتدية فستانها الأسود القصير .. منتعله حذائها الأسود الأنيق .. وقفت أمام باب منزله تقدم قدم وتؤخر الأخرى .. همت بالنقر على الباب .. تراجعت وأنزلت يدها بجوارها .. أخرجت المفتاح الصغير من حقيبتها السوداء الصغيرة.. أدخلته في ثقب المفتاح وأدارته .. دخلت المنزل الذي تعرفه جيداً، فقد زارته فيه مراراً .. اتجهت نحو السلم المؤدي للدور العلوي .. وقفت أمام المرآة الطولية الموضوعة على الجدار .. نظرت لزينتها وأرجعت شعرها للخلف .. تعلم انه يحب شعرها هكذا، منسدلا خلف كتفيها .. تنهدت وأمسكت بالدرابزين الخشبي .. صعدت ببطء .. لا يوجد احد في المنزل .. لا تسمع صوت آت من أي مكان .. تعلم أن والدته متوفيه ووالده حتما خارج المنزل في هذا الوقت .. توجهت لغرفته وفتحت الباب .. وقفت في مدخل الغرفة تدير عينيها فيها .. لم يتغير فيها شئ منذ تركتها أول أمس حتى ملاءات الفراش لم يتم تغييرها .. ابتسمت حين تذكرت مناكفاتها معه بشأن نظافة غرفته فهو يترك كل شئ لمدبرة المنزل التي تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع لتنظف المنزل وتترك له ولأبيه في الثلاجة طعام يكفيهما لحين عودتها مرة أخرى .. تذكرت كيف أنبته لعدم مساعدة المدبرة في تنظيف الفوضى التي يتركها خلفه .. خطت داخل الغرفة حتى وصلت للمزينة الموجودة بجوار النافذة .. التقطت فرشاة شعره .. أمسكت بطرف شعرها من أسفل ومشطته بفرشاته .. تركت الفرشاة من يدها .. وتوجهت نحو المنضدة أسفل النافذة .. التقطت احد اسطواناته والتي تعشق أغانيها .. أدارت الاسطوانة فانبعثت أغنيتهما المفضلة والتي طالما رقصا عليها معا .. أمسكت بصورته الموضوعة على المنضدة الصغيرة بجوار الفراش .. نظرت مطولاً لعينيه ولابتسامته المنيرة .. ابتسمت وهي تمرر أناملها على شعره .. قبلت صورته وأخذتها في حضنها .. توجهت نحو فراشه وهي تتساءل كيف تبدو هذه الغرفة كبيره الآن من دونه .. التقطت سترته الجلدية من على طرف الفراش الغير مرتب وهي مازالت ممسكه بصورته .. جلست على فراشه .. اشتمت سترته مستمتعة برائحته المميزة والتي تعشقها .. نظرت للفراش وابتسمت .. كانت هنا ليلة أول أمس .. على فراشه .. بين ذراعيه .. تذكرت إحساسها به .. بلمساته عليها .. بنظرة عينيه تحتضنها قبل يديه .. فرت دمعة صغيرة من ركن عينيها .. احتضنت سترته الجلدية وأمالت جسدها على طرف الفراش .. تكومت على نفسها مثل طفل صغير .. وضعت صورته بجوارها على الوسادة .. نظرت لابتسامة عينيه .. احتضنت سترته بقوة وقد انهمرت دموعها ولم تعد لها سيطرة عليها وهي تعي جيداً أن هذا آخر عهدها به .. ان هذه الذكريات هي كل ما تبقى منه .. وان الرائحة المميزة له ستختفي قريباً من سترته الجلدية .. لن يحتضنها بعد الآن أبدا ولن يخبرها أنها حبه الوحيد ثانية .. أغمضت عينيها على عذابها .. لم يكن من المفترض أن يتركها وحيده فقد كانا يخططان لحياة سعيدة معاً .. لم يكن من المفترض أن تنهي سيارة مسرعة ذات قائد سكران هذه الأحلام وهذه الحياة .. لقد كان فقط في العشرين من عمره، كانت الحياة أمامهما مليئة بالآمال والتوقعات .. اعتزما أن يتخرجا هذا العام ويسافران معا في رحلات استكشافية قبل أن يحددا ما الذي يريدان فعله في حياتهما، ويبدآن في خوض معترك العمل .. كانت تحبه بكل كيانها .. تعرفه منذ أن كان عمرها ثلاثة أعوام .. منذ أن انتقلت أسرتها للمنزل المجاور وادخلا معاً نفس الحضانة، لم يفترقا من أول يوم وأصبحا أصدقاء طفولة ..وقفت بجواره حين فقد أمه في الثالثة عشر .. خففت عنه كثيراً .. وكبرا ليبقى بينهما الخجل الرائع الذي يبدأ به الصبا .. اعترف لها بحبه حين كانا في الخامسة عشرة عندما لاحظ أن زميلاً لهما في المدرسة الثانوية بدأ بالتقرب منها ودعوتها لحضور حفل مدرسي .. هنا لم يستطع أن يكبح جماح نفسه .. اقترب منها وعلامات الغضب بادية في عينيه واخبرها أنها لا تستطيع مرافقة هذا الشاب إلى الحفل .. سألته ببراءة أنثى ما تزال في كون التطوير: ولماذا؟! .. أجاب بغضب رجل صغير: لأنك ستذهبين معي.
ابتسمت بكل سعادة وهي تعلن موافقتها بهزة صغيرة من رأسها .. لم تكن موافقة على الذهاب إلى الحفل فقط بل كانت موافقة منها على بداية عهد جديد بينهما .. عهد من الحب .. عاشا معاً خمس سنوات رائعة من السعادة .. لم يكونا يفترقان ولم يقل الشغف في قلوبهما ابداً ..
بكته بحرقة وهي ترى جثمانه يثوى في التراب .. أوشكت أن ترمي بنفسها فوق التابوت .. أمسكت بها صديقتها في أخر لحظة وأخذتها بعيدا عن الجنازة .. توجهت لمنزله وهي تعلم أنها أخر مرة .. بكت وهي تعرف أن دموعها لن تجف قريباً.