سمراء .. لونها مثل لون العسل الجبلي الصافي .. طويلة في اعتدال، سمهرية القوام، رشيقة مثل غزالة برية، أما شعرها فحكاية أخرى .. أسطورة خرجت من حواديت ألف ليلة وليلة، ليل حالك السواد لم يظهر له قمر، طويلاً تراه بلا نهاية، يختفي خلفه ظهرها المفرود، ناعم كأنها طلبت صناعته خصيصاً بمواصفات خيالية، لامع كأن النجوم انتقلت من السماء لتستقر راضية بين طياته..
أما وجهها فسبحان من قال: كن .. فكان .. بيضاوي في استدارة خفيفة، تزينه عينان واسعتان مسحوبتان قليلاً تعلوهما أشواك رموشها السوداء المغروسة دوماً في قلوب ضحاياها .. أما لون عينيها فلا يعرف له قرار .. مثل العسل المصفى صباحاً، في خضرة الأشجار مساءاً، أما عندما تغضب أو تثور فلا يعرف لعينيها لون فهما خليط مدهش من البني والعسلي والأخضر، يحددهما إطار أسود .. نعم أسود يزيد من حيرة الغارق في بحور عينيها .. ويعلو هاتان العينان الآخاذتان حاجبان أسودان مثل قوس مشدود ينساب بينهما أنف أقنى يرتفع في نهايته بشمم، وتستقر تحته شفتان شهيتان في اكتناز وحمرة قانية طبيعية .. منفرجتان قليلاً بدون وعي منها فلا يعرف الناظر إليها هل هي انفراجة البراءة أم الإغراء!!..
حسنا .. لقد وصفتها كما وعتها ذاكرتي تماماً، فبعد مرور خمسة عشر عاماً لازلت أراها بعين خيالي كأنني رأيتها بالأمس فقط .. لقد كانت دوماً المثال الحي أمامي للجمال المجرد فلم أرى طوال حياتي امرأة أجمل منها .. أما أين رأيتها فهي حكاية أخرى لا أظن أنها تثير الخيال .. ولكني سأرويها على أي حال ..
رأيتها في فيلم أجنبي .. كانت هندية تتحدث الانجليزية وكان الفيلم اشتراك هندي بريطاني يحكي عن حقبة الاستعمار البريطاني للهند، أما هي فقد كانت بطلة الفيلم التي شاء حظها العاثر أن تيتم هي وأختها الصغرى الأقل منها جمالاً والأوفر دهاءً ..
ويشاء الفيلم أن يختار المهراجا الهندي أختها الصغرى ليتزوجها، ولكنها تخاف على أختها من هذا الرجل الذي يماثل حجمه حجم قارب صغير وتشترط لإتمام الزواج أن يتزوجهما المهراجا معاً .. أي هي وأختها، وبالرغم من مقتها الشديد له وبالرغم من حبها الشديد لضابط بريطاني كان صديقاً لهذا المهراجا وأحبته قبل ولع المهراجا المتصابي بأختها الصغرى .. بالرغم من كل هذا إلا أنها فضلت أن تضحي بسعاتها وتتزوج هذا الفيل كي لا تبتعد عن اختها الصغرى وتستمر في رعايتها..
ولكن ما لم تعرفه سمراءنا الجميلة أن أختها المتطلعة إلى الثروة، المتعطشة للسلطة هي من أوقعت المهراجا الضخم في حبالها بدهائها وحيلها الأنثوية فقد كانتا تحت رعاية هذا المهراجا بعد وفاة والديهما كوصي عليهما وككبيراً للقرية التي يقطنون بها ..
ولهذا فقد حقدت عليها أختها الصغرى إذ اعتقدت أن سمراءنا تطمح في أن تشاركها مجدها ومنزلتها عند زوج المستقبل، ولكن المهراجا وافق على أي حال وحدد ميعاداً للزفاف قبل أن يتاح للأختين مواجهة إحداهما الأخرى والتحدث معاً .. وبناء على هذا فقد فصلت الأختان كل في جناح كي يتم تزيينهما وتهيئتهما لحفل الزفاف الذي سيستمر سبعة أيام متصلة..
ولأن الأخت الصغرى مازالت على اعتقادها فقد ضغطت على زوجها كي لا يزور جناح زوجته الأخرى أبداً .. أي أختها، وامتد بها الغيظ حتى أنها أمرت بإخراجها من هذا الجناح وسجنها في غرفة منعزلة أعلى برج يقع في نطاق حديقة القصر الشاسعة بحيث أنها ترى سجن أختها دوماً وتعرف من الذي زارها، ولم تكتفي بهذا بل أمرت أحد الحراس أن يلازم باب الحجرة فلا تخرج أبداً ولكن تدخل إليها خادمة عجوز كل يوم بوجبة واحدة فقط وتؤدي لها مهامها من تمشيط شعرها والعناية بجسدها ..
ويمرض المهراجا الضخم جراء أكلة دسمة لم تتحملها معدته المتخمة ولا يمهله المرض أكثر من ساعة حتى يكون قد قضى نحبه شهيداً للطفاسة .. ومن المعروف أن من عادات الهندوس أن من يموت زوجها يجب أن تحرق حية مع جثمانه، وبالرغم من أن سمراءنا قضت فترة زواجها منه محبوسة في القصر ثم البرج إلا أن القرية طالبت بحرقها هي بإعتبار أنها الكبرى .. ولكن أختها الصغرى رفضت بثورة وغضب وأصرت على أن تنول شرف حرق جثمانها مع زوجها على اعتبار انه كان لها وحدها، غير أنها لم تكن قد تألمت في حياتها بفضل أختها الكبرى ولم تكن تعرف كيف تحرق النار جسداً .. كانت صغيرة وجاهلة والحقد المتأصل فيها تمازج مع عندها ليصنعا قرارات غبية..
وفي اللحظة الحاسمة أنقذ الضابط بمساعدة الخادمة العجوز محبوبته بعدما سمع أهل المهراجا يتفقون على أن يحرقوها هي أيضاً ولكن بعد حرق أختها الصغرى .. وعندما ابتدأت مراسم حرق الجثمان وتقدمت الزوجة الصغرى بكل اعتداد وبهاء لتشارك زوجها مثواه الأخير أطلقت صرخات مفزوعة أشبه بالعواء المتواصل عندما بدأت النيران تمسك بشعرها .. عندها إلتفتت أختها الكبرى إليها وهي تخطو أول خطوة نحو هروبها من هذا الجحيم واستلت مسدس حبيبها من جرابه وأطلقت عليها رصاصة أرتها قتيلة على الفور .. فقد كانت تشفق عليها من عذاب الموت حرقاً ورأت أنها بما أنها ستموت لا محالة فليكن بطريقة أرحم..
وإلتفت أهل المهراجا وأعوانه إلى مصدر الطلقة التي حرمتهم من رؤية عرض لأبشع الطقوس التي عرفتها حتى الآن ورأوها وهي تهم بالفرار مع فارسها المنقذ وأبتدأ النزال ثم المطاردة، حتى نجح أخيراً بطلنا المغوار وتجاوز بحبيبته حدود المدينة هرباً ممن يطالبون بروحها..
وانتهى الفيلم .. ولكن صورة هذه الفاتنة لم تغادر خيالي أبدأ وكان لابد أن أكتب عنها عسى أن تغادر الخيال لتستقر بين صفحات الورق .. أو فالأفضل لها أن تسكن بخيالات من سيقرأ عنها، خصوصاً وأنني لم أرها بعدها في أي عمل فني إلى الآن مع العلم بأنني لم أكن قد رأيتها قبل هذا الفيلم..
إنها واحدة من القلائل اللذين يظهرون في حياة أي منا .. ينيرون خيالنا ولا نراهم بعدها إلا في هذا الخيال.